[color=darkred][size=18][center]قد أقبلت من بعيد متزينة متعطرة، وقد بلغت في الجمال منتهاه، وفي الحسن غايته، ومع هذا فهي تتبرج وتتلون، تتعرض للغادي والرائح، تتفنن في الإغواء والتزيين؛ عيناها تقذف بشرر كالسحر بل هو أعظم، وتقاسيم وجهها تنبئ عن عبارات الفتنة وشعارها: "هَيتَ لك". فكم من هائم في حبها ومغرور بعَرَضها وغارق في لجج الهيام والصبابة لها. إنها تملك دخول كل بيت دون إذن أو قرع باب، إنها تسكن العقول وتعانق سويداء القلوب، تسعى ويجري الناس خلفها، تشاركهم المأكل والمشرب، تخاطبهم إن تحدثوا، وتشغل تفكيرهم إن صمتوا، هي حديث القوم وسمير مجالسهم، تنام معهم، وتستيقظ بيقظتهم.
عشقها العاشقون، وهام بها المحبون، كم لها من عاشق متأوه ومتيّم متحسر ومحب متألم، ظهرت في زينتها، وعرضت في فتنتها، وتبدّت في محاسنها، فخُدع بها أُناس، وافتتن بها فئام، ظنوا أنها صادقة في الحب مخلصة في الشّوق توّاقة للغرام وفيّةٌ للأحباب ناصحة للأصحاب، فتنافسوا في كسب ودها، واقتتلوا للظفر بقربها، فأردتهم صرعى، وتركتهم هلكى، وذلك جزاء الحمقى. والعجب أن خُطّاب ودها وطلاب مجدها لم يعتبروا بإخوانهم من العشاق القدامى، ولم يتعظوا بمن خدعتهم من النّدامى، فارتموا في أحضانها، وتسابقوا في ميدانها، وهي لا زالت تتفنن لهم في إبداء زينتها، وتتحبّب لهم ببعض مباهجها، حتى إذا أحكمت الزمام، غدرت وفجرت وفتكت وقتلت. كم لها من محروم يتألم ومهضوم يتظلّم، كم ذبحت من فارس على مخدة الترس وعروس على منصة العرس، فمن هي هذه الفاتنة؟! ومن تكون تلك الخائنة؟!
إنها الدنيا، الدنيا التي لها من اسمها نصيب، الدنيا التي عشقناها بل هِمنا في حبها وتنافسنا في قربها، وأمهرناها أنفسنا ومشاعرنا وقلوبنا إلا من رحم ربك.
لو تأمّلنا أحوالنا بل وأحوال من سبقنا لوجدنا أن الدنيا وحبها والحياة وطيبها هي سبب رئيس في كل نازلة وعنصر مهم في كل قارعة، فما طغى فرعون وأمثاله إلا حينما أخلدوا إلى الأرض ومباهجها وخُدعوا بالحياة وزينتها، وما بغى قارون وأمثاله إلا حينما فُتنوا بنعيم الحياة وغرهم المال والجاه، قال الله تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:76، 77]. إنها الدنيا بشهواتها وشبهاتها وملذاتها.
فيا من قَضيت العمرَ وراء شهواتها، ألم يأن لك أن تنظر في أمرك؟! ويا من انصرمت أيامه في الدنيا وملذاتها، ألم تبك على عمرك؟! يا من أقبلت على الدنيا بحلالها وحرامها وفُتِنتَ في غرامها، ألم تفكر في النهاية وتتأمل في النتيجة؟!
إنها الدنيا؛ إذا وصَلَتْ فتبعات موبقة، وإذا فارقت ففجعات محرقة، ليس لوصلها دوام، وما من فراقها بدّ، وصفها خالقها وموجدها بأنها لعب ولهو وزينة، فقال جل وعلا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]. إنها لعب وضياع، لهو وتفاخر، غرور خادع وأمل كاذب وظل زائل، قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45، 46].
مر النبي بالسوق والناس على جانبيه، فمرّ بجدي أسَكّ ميت فتناوله، فأخذ بأذنه ثم قال: ((أيكم يحبّ أن هذا له بدرهم؟))، فقالوا: ما نحبّ أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! ثم قال: ((أتحبون أنه لكم؟))، قالوا: والله، لو كان حيًا كان عيبًا فيه لأنه أسّكَ، فكيف وهو ميت؟! فقال : ((فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) رواه مسلم، ويقول : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)) رواه الترمذي. يقول علي بن أبي طالب : (مثل الدنيا مثل الحية؛ ليّنٌ مسّها، قاتل سمها، فأعرض عما أعجبك منها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما أيقنت من فراقها، وكن أحذر ما تكون لها وأنت آنس ما تكون بها، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أبعده عنها مكروه، وإن سكن منها إلى إيناس أزاله عنها إيحاش).
هذه هي الدنيا؛ لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا تُخْلي من محنة، نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وتبعاتها تبقى، قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ [القصص:60، 61]. من نظر إليها بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء وحياتها عناء وعيشها نكد وصفوها كدر وأهلها منها على وجل؛ إما بنعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منية قاضية.
إنها الدنيا؛ حلالُها حساب، وحرامها عقاب، المكدود فيها شقيٌّ إن ظفر، ومحروم إن خاب، إن أخذ مالها من حلّه حوسب عليه، وإن أخذه من حرام عذِّب به، من استغنى فيها فتِن، ومن افتقر فيها حزِن، ومن أحبَّها أذلّته، ومن تبعها أعمته.
هي الدار دار الأذى والقذى ودار الفنـاء ودار الغِيَـر
فلو نـلتهـا بحذافيـرهـا لَمُتَّ ولَم تقض منها الوطَر
إنها ظل الغمام وحلم النيام، من عرفها ثم طلبها فقد أخطأ الطريق وحُرم التوفيق، قال : ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالمًا ومتعلمًا)) رواه الترمذي. قيل لأحدهم: ترك فلان بعد وفاته مائة ألف درهم، فقال: ولكنها لا تتركه. فالسعيد من اعتبر بأمسه واستظهر لنفسه، والشقي من جمع لغيره وبَخَلَ على نفسه. ليس لك ـ يا ابن آدم ـ من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت. فالعاقل لا ينخدع بها، بل يعتبر بمن مضى من الأمم السابقة والقرون الماضية؛ كيف عفَت آثارهم واضمحلت أنباؤهم.
قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة؟! وقال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يومٌ مضى بعضك.
نسير إلَى الآجال فِي كل لحظة وأيـامنا تُطـوى وهنّ مراحل
ولَم أر مثل الْموت حقًـا كأنه إذا مـا تخطّته الأمـاني بـاطل
وما أقبح التفريط في زمن الصّبا فكيف به والشيب للرأس شاعل
ترحّل من الدنيا بزادٍ من التّقى فعمـرك أيّـام وهـنّ قلائـل